الفساد منظومة وليس أفرادا

‌تحسين المنذري

تتصاعد في الاونة الاخيرة موجة محاربة الفساد بشكل لافت، سيما مع الصدى المتفاعل مرحبا الذي يبديه الشارع العراقي مع كل عملية إقتياد أو إستدعاء لواحد من الرموز البارزة في العملية السياسية أو ممن يتبأوون مناصب وظيفية عليا، ورغم إيجابية هذه الموجة لكنها تبقى قاصرة عن الوصول الى تنظيف شامل من بؤر الفساد سواءا في أجهزة السلطة أو في المجتمع.

فللفساد جذور ممتدة الى حقبة النظام البعثي المباد، يوم كان الشرطي لا يرد السلام على المواطن المراجع ما لم يلوح له الاخير بما يحمل له من هدية (رشوة) ويوم كان الضابط في الجيش لا يخجل من أن تصله هبات الجنود الى داره مقابل مكان جيد أو إجازة طويلة الامد ، عدا ما كان يلاقيه الناس من مطالبات شبه علنية في مراجعاتهم الى دوائر هامة كالتسجيل العقاري ودوائر الضرائب وأمانة العاصمة والبلديات في المحافظات وغير ذلك الكثير، وكل ما يقال عن حزم النظام المقبور في مواجهة الرشى والعمولات لم يكن إلا واجهة إعلامية فحسب، فالكثير من القطط سمنت في عهده ووصلت الى مراكز حساسة أو حققت مطالب مهمة عن طريق الرشى المدفوعة حتى لرأس النظام نفسه. وعلى هذه الخلفية بدأ نمو الفساد بعد سقوط النظام البعثي ودخول قوات الاحتلال وما أدى إليه ذلك من إنهيار لمؤسسات الدولة العراقية .

لكن الاكثر تأثيرا كان ما زرعه (بول بريمر) الحاكم الاميركي الذي تولى مقاليد الامور في العراق حيث كان هو الآمر الناهي في كل شيئ وما يشير هو اليه في كتابه عن العراق من إنه أعطى مبلغ (عشرين مليون دولار) لاشخاص كي يقوموا بتشغيل أيدي عاملة في كري الانهار الفرعية (السواقي) في مناطق وسط العراق ، فلا السواقي كُريت ولا أحد عرف من تسلم المبلغ ولا الى أين آل مصيره، كذلك ما قيل حينها بأنه أعفى بعثة الحج التي أرسلها بزمنه من المطالبة بمبلغ (أحد عشر مليون دولار) لم تستطع البعثة من تقديم سندات صرفها، فأعتبرها هو إنها ربما كانت مصاريف نثرية بدون وصولات فلم يطالبهم بمعرفة مصيرها، وغير ذلك الكثير مما شاهده الناس من عمليات نهب منظمة ومن إستيلاءات قسرية لمسؤولين أتى بهم الاحتلال لأملاك الدولة والناس دون أية محاسبة أو حتى كلمة ردع، وأيضا بعض التشريعات التي وضعها بريمر مثل إلغاء قيود التحويلات الخارجية أو مزاد بيع العملة الاجنبية أو تسهيل تأسيس المصارف وشركات الصيرفة، وبذلك فقد هيأ الاحتلال أذهان المسؤولين الجدد للقيام بواجبهم في إتمام مشروعه بتهديم البنى التحتية وتعطيل عجلة الاقتصاد المنتج وتحويل العراق الى أسواق مستهلكة كي يسهل معها التحكم بمصائر الناس عن طريق التلاعب بإستيراداته وقبلها بموارده . وفي الفترة التي أعقب حكم بريمر المباشر وقبيل وصول المدعو (نوري المالكي) الى دفة رئاسة الوزراء كان الفساد ينمو بشكل بطيئ وخجول أحيانا، إلا إن المالكي جعل من الفساد ظاهرة علنية برعايته للفاسدين وحمايته لمن يقع منهم في أيدي القضاء مقابل إعلان الولاء الشخصي له والضغط على القضاء العراقي لايجاد السبل الكفيلة بعدم ملاحقة هؤلاء مستقبلا مما أوصل الفساد الى أهم مؤسسة ممكن الاعتماد عليها في محاربة الفساد وإنهائه، وأقصد بها القضاء، بل إن المالكي نفسه كان يصرح بإمتلاكه كذا ملف عن فلان وعن علان دون أن يبوح بماهيّة تلك الملفات ودون أن يتخذ أي إجراء رسمي تجاههم، مما أوجد سياقا جديدا في السياسة العراقية تقضي بالتستر المتقابل بين الخصوم على جرائم بعضهم ، وبذلك فقد نما الفساد أفقيا وطوليا في كل مؤسسات الدولة وخاصة تلك التي تحظى بمراجعات المواطنين لها لاتمام بعض الامور الحياتية المهمة ، وبهذه الطريقة فقد أصبح الفساد ليس فقط منظومة سياسية ـ إقتصادية بل إنه أوجد أرضية مجتمعية تخدم إستمراره من خلال عدم التساؤل عند الناس عن مظاهر الغنى الفاحش المفاجئ للكثيرين من السياسيين النافذين أو من أقاربهم وأتباعهم ومن يلتحق بركبهم بشتى طرق الموالاة وتقديم الخدمات، فبات الفاسد وجها إجتماعيا يحتاجه الناس للتوسط في بعض قضاياهم المستعصية سواء كانوا أصحاب حق فيها أو لا، وبات توصيف الفاسد أو المرتشي بأنه (سبع ودبّرها) وليس منبوذا أو في أي موضع تهكم .

ولم يكتفِ الفاسدون بكل ذلك فأوجدوا ميليشيات مسلحة تساندهم وتأتمر بأوامرهم سواءا من اللائي كانت قائمة أصلا أو مما قاموا هم بتكوينها لكي تحمي مصالحهم وتهدد بل وتقصي أو تنهي حياة من يتجرأ على المساس باي رمز من رموز تكوينها ورعايتها، وما حدث مع المنتفضين في تشرين أول 2019 وما تلاه من فترة زمنية كان واضحا جدا إنه من فعل ميليشيا مسلحة تحظى برعاية مسؤولين فاسدين في السلطة . كما إستطاع الفاسدون أن يجدوا لانفسهم ملاذات آمنة وأذرع ممتدة في بلدان أخرى أقليمية ودولية عن طريق إمتلاك أسهم تجارية وعقارات وأرصدة في بنوك تلك الدول أي تركيز مصالح إقتصادية هناك تخدم وجودهم الدائم لاحقا أو حتى إمتلاكهم لجنسيات بعض تلك البلدان.

إن منظومة بهذه السعة وهذه الامكانيات الكبيرة، ليس من الممكن القضاء عليها أو الحد منها بعمليات عشوائية متقطعة تخضع لاهواء المتنفذين أحيانا وتتبع أجندات سياسية أو تمهيدات إنتخابية في أحيان أخرى، بل هي تحتاج الى جملة عوامل وإجراءات ضرورية للوقوف بوجهها والحد منها أولا ومن ثم القضاء عليها نهائيا، وبتقديري فإن ذلك يحتاج الى :

* توفر عزيمة حقيقية ورغبة صادقة في القضاء على الفساد خدمة للوطن والشعب وليس تنفيذا لاجندات أو تجسيدا لصراعات سياسية .

* وضع ستراتيجية وطنية للقضاء على الفساد، تتضمن الاهداف البعيدة المدى والخطوات التكتيكية لتحقيقها، ولا بأس في الاستعانة بخبرات دول لها أسبقية في محاربة الفساد أو حتى اللجوء الى المنظمات الدولية المعنية أو الاستعانة بمؤسسات قانونية ـ إدارية مختصة لها خبرة بهذا المجال .

* تشديد التشريعات الخاصة بمحاربة الفساد وإيجاد تشريعات أخرى تنسجم مع واقع الفساد وتشعباته وقوته، وبأثر رجعي، وتنقية مؤسسات القضاء من الفاسدين أو المتعاونين من المفسدين بناءا على تاريخ كل منهم وخلفيته الوظيفية وإدائه المهني، وتركيز مهمة مقاضاة الفساد والفاسدين بأجهزة القضاء العراقي حصرا دون تكوين مؤسسات متعددة لذلك مما يتيح للفاسدين الوصول لبعض موظفيها أو تشتيت القضايا التي تحال الى اي منها .

* يترافق كل ذلك مع حملة توعية وطنية جماهيرية تساهم فيها أجهزة إعلام الدولة المحايدة ومنظمات المجتمع المدني النزيهة ولا بأس من إشراك المؤسسات التعليمية في ذلك كالجامعات والمدارس الثانوية وغير ذلك من المنابر المؤثرة في المجتمع .

* عقد إتفاقيات دولية ثنائية أو اللجوء الى الامم المتحدة لاستصدار قرار يلزم الدول التي آوت الفاسدين أو قاموا بتوظيف أموالهم فيها بوجوب إعادة تلك الاموال الى الخزينة العراقية بما يرافق ذلك من إلتزامات على الحكومة العراقية لتنفيذ تلك الاتفاقيات أو قرارات المؤسسة الاممية، وكذلك تنشيط مسلك العمل مع منظمة الشرطة الدولية (الانتربول) لضمان إعادة الهاربين من الفاسدين الى العراق لمواجهة القضاء بالتهم المنسوبة اليهم .

* العمل فورا على إعاقة عمل الفاسدين بإقتحام مؤسسات الدولة للمفاصل التي إستحوذ عليها الفاسدون مثل البنوك أو مؤسسات الصيرفة وغيرها بما يدفع المواطن أن يفضل اللجوء الى المؤسسات الحكومية لانجاز أعماله الخاصة وليس المنشآت المملوكة للقطاع الخاص ، كما يجب أن يترافق ذلك مع تقليل الروتين والبيروقراطية في عمل مؤسسات الدولة .

إن للوطن ولأجياله الشبابية واللاحقة حق على كل من يتصدى للعمل أو إدارة أية مؤسسة حكومية يتمثل في صيانة حقوقه وكرامته وضمان مستقبلٍ أفضل ولا يبدأ كل ذلك إلا بالعمل الجاد للقضاء على الفساد والمفسدين.


AM:09:41:24/04/2021

ئه‌م بابه‌ته 296 جار خوێنراوه‌ته‌وه‌‌