الفساد في العراق... حالة عابرة أم نهج مبرمج؟

‌صباح ناهي

الدولة "عايشة على المغذي بين الموت والحياة"
سأل صحافي أميركي الرئيس الأسبق رونالد ريغان عن تجاهل طرح قضية التضخم في حديث مطول يومها، فأجابه ريغان بأريحيته المعهودة، "لماذا تسألني عن التضخم؟ فقد كبر كثيراً، ويستطيع التحدث عن نفسه من دون حديث الرئيس عنه". ضحك الموجودون في القاعة، لأنهم أدركوا أن الرئيس لا يحتاج إلى تبريرات عن حالة التضخم التي كانت تسيطر على الاقتصاد.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أهم بإعداد تقرير عن الفساد في العراق، لأنه يتحدث عن نفسه، وكأنه وباء ينتشر في عموم البلاد لا تنافسه سوى جائحة كورونا، وفي القطاعات والأماكن والبيئات كلها منذ الاحتلال عام 2003.

هيئات النزاهة أصيبت بعدوى الفساد 
أنشأت الدولة مؤسسات لمكافحة الفساد وهيئات حملت اسم النزاهة، لكن الفساد قد وصل إلى بعضها، حيث انتشرت المساومات على الملفات التي تقدم إليها من أطراف برلمانية وحكومية معلومة، لتغلق أو تؤجل. والمهم هو ألا تؤدي تلك الملفات إلى نتيجة، بل إنها باتت وسائل للابتزاز تظهر أثناء مواسم الانتخابات. ويلخص مشعان الجبوري، النائب السابق والمرشح الحالي في الانتخابات المقبلة، حالة الفساد بالآتي، "جميع السياسيين وأصحاب المناصب الرفيعة في العراق فاسدون ومرتشون، وجميع أعضاء لجنة النزاهة البرلمانية فاسدون ويسلمون اللجنة رشوة ويتم على أثرها إغلاق الملف بالكامل". ويكشف الجبوري عن أنه قبض رشوة من أحد المتوسطين لديه، ولم ينفذ له ما يريده. كان ذلك على الهواء خلال حوار تلفزيوني، واعتبر ذلك موقفاً يحسب له، لا عليه.

أحمد الجلبي مات قبل كشف الفاسدين 
السياسي العراقي أحمد الجلبي، الملقب بعراب إطاحة صدام حسين، رئيس اللجنة المالية في البرلمان الذي أثيرت تكهنات حول ملابسات موته، كان بصدد نشر تفاصيل تخص شبكة الفساد في البلاد. وهو أول المتحدثين الرسمين عن الفساد ونهب أموال الدولة. وقد أعلن قبيل موته أنه يتعرض لحملة تهديدات لمنعه مما وصفه بـ"الوصول إلى مكامن الفساد وفضح العصابات التي أستأثرت بثروات الشعب". وتحدث عن "عصابات الدولار"، ويعني المتنفذين في المصرف المركزي العراقي والبنوك، الذين حققوا أرباحاً طائلة من شرائهم الدولار بأسعار منخفضة وتهريب المليارات إلى خارج البلاد. وذكر مقدار لأرباحهم خلال عشر سنوات، وهو عشرة تريليونات و800 مليار دينار عراقي على الأقل. ووصف عملية الاختلاس تلك بالقول، "كانت البذرة السامة التي نمت منها شجرة الفساد الفارعة، واستظل بها البعض من ذوي الثراء الفاحش والنفوذ السياسي الواسع، وجنى ثمارها الرديئة العراقي البسيط". وحذر الجلبي من احتمال السقوط في هاوية اقتصادية واجتماعية، ما لم تتخذ الحكومات إجراءات حقيقية وفعالة بحكمة وسرعة.

الفساد في الوزارات كلها
ويرى النائب فائق الشيخ علي أن "الفساد يجتاح جميع الوزارات العراقية، وهو مستمر لأنه لا محاكمات للفاسدين، والأموال التي تم استرجاعها بواسطة هيئة النزاهة لا تشكل نسبة واحد من ألف من قيمة ما سرق ونهب من البلاد، بل نحن ندفع مئات الملايين إلى الدول التي تثير ضدنا قضايا بسبب الإهمال وانعدام المتابعة وانشغال الوزارات بأمور أخرى، بل حتى الأجواء العراقية التي يمر عليها بمعدل ألف طائرة، أجورها كانت تدفع لسنوات لحساب شخص، وليس للدولة العراقية، على سبيل المثال".

وتكمن أكبر المبالغ المنهوبة من العراق في حقل الطاقة المتمثل بالعقود التي أبرمت مع الشركات العالمية لإنتاج الطاقة الكهربائية التي كلفت البلاد قرابة مئة مليار دولار، وظلت البلاد تلجأ إلى التوليد الخاص وبيع "الأمبيرات" من تجار معظمهم مرابون ملتصقون بالأحزاب والميليشيات التي تحميهم، كما يقول صحافي عراقي.

الوزارة الأكثر فساداً
لكن عدم توافر الطاقة الكهربائية يعزوه الباحث رياض محمد إلى الفساد في الوزارة وعقودها، وعدم تنفيذ الشركات العالمية العقود الموقعة، إذ "توضح أرقام الموازنات العراقية بين عامي 2003-2020 أن العراق أنفق ما لا يقل عن 70 مليار دولار في الاستثمار والتشغيل والوقود لقطاع الكهرباء، بالإضافة إلى استيراد الكهرباء من دول الجوار، وعلى الرغم من ذلك لا يزال العراقيون يعانون انقطاع الكهرباء نحو 16 ساعة يومياً في الصيف. وربما ذهب نصف الـ70 مليار دولار إلى الاستثمار في بناء محطات وبنى تحتية جديدة.

السياحة العراقية... فرص ذهبية لواقع متدهور ومهمل
وتقول شركة "جي أي" إن 60 في المئة من الشبكة الكهربائية في العراق تعمل بمعداتها. وهكذا، فقد لا تقل حصة "جي أي" في السوق العراقية منذ 2003 عن 10 مليارات دولار، إن لم تكن أكثر من ذلك بكثير. وتولى وزارة الكهرباء خلال السنوات الـ17 الماضية 8 وزراء أجبر 4 منهم على الاستقالة، في حين حُوكم 3 آخرون بتهم الفساد، ويقيم معظمهم خارج العراق.

ويؤكد الوزير السابق للكهرباء كريم وحيد، لـ"اندبندنت عربية"، أن "التعطيل الحقيقي للمنظومة الكهربائية هو عدم تنفيذ برامج صيانتها وإدامتها، إذ سيكون وقت الصيف أشد قسوة إن لم تنفذ برامج صيانة وتأهيل مكثفة مقرونة بتخصيص مبالغ كافية لتنفيذ هذه البرامج وبأسبقية على النشاطات والقطاعات الأخرى". ويقول إن "قطاع الكهرباء عانى، وما زال، صراعات القوى السياسية التي انعكست على أدائه وعلى قطاع الطاقة، وتحمل هذا القطاع تشويهاً في أدائه أكثر من القطاعات الأخرى".

وحاجة الناس إلى الطاقة الكهربائية من دون توقف في بلد حار كالعراق فرضت ضخ أموال هائلة لوزارة الكهرباء التي أحيل معظم مديريها إلى المحاكم نتيجة الفساد وهدر الأموال على العقود والشركات الوهمية.

ذر الرماد في العيون
مع اقتراب الانتخابات، شهدت الأسابيع الماضية، حملة عراقية لمكافحة الفساد، بدأها الرئيس برهم صالح بما سماه "مشروع قانون استرداد عوائد الفساد" الذي أحاله إلى مجلس النواب لإقراره بهدف استعادة الأموال المهربة إلى الخارج وتقديم الفاسدين إلى العدالة. وأكد أن ما لا يقل عن 150 مليار دولار وظفت في صفقات فساد تم تهريبها إلى الخارج.

وفي الأثناء، أطلقت "يونامي"، البعثة الأممية في العراق، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، مبادرة بقيمة 15 مليون يورو لمكافحة الفساد في العراق ودعم امتثاله إلى الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والإسهام في خلق بيئة أكثر ملاءمةً لجذب الاستثمارات.

وسط ذلك، أكد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي أهمية استرداد الأموال المنهوبة من الخارج ومكافحة الفساد، واعتبر ذلك أولوية لحكومته، بل ذهب بعيداً بقوله، "الفساد توأم داعش وظهيره، وهو يبطش بالعراقيين"، مشيراً إلى دور الفساد في تأجيج الصراع الطائفي وإضعاف أجهزة الدولة. وأعلن أن اللجنة الخاصة لمكافحة الفساد التي شكلها لدى توليه رئاسة الحكومة كشفت خلال عام عن ملفات فساد لم تكشف طوال 17 عاماً، واستردت أموالاً منهوبة من الخارج، لكنها تعرضت لهجوم واتهامات باطلة كان الهدف منها إحباط عملها.

تفعيل القضاء العراقي
وقد بدأت مرحلة تفعيل القضاء العراقي لتحريك قضايا النزاهة، من خلال محاكم متخصصة في المحافظات، وشرعت بتحريك القضايا المرفوعة على الأشخاص والشركات المتهمين من قبل هيئة النزاهة الحكومية ولجنة النزاهة البرلمانية، ما تسبب برفع منسوب الأمل في الحد من تلك الظاهرة الخطرة ووقف نهب المال العام بعقود وهمية، انتعشت خلال تمدد "داعش" وسيطرته على ثلث البلاد في عام 2014. فقد رفعت آلاف القضايا التي تحتاج إلى قرار قضائي لمحاكمة مرتكبي التجاوزات على المال العام والخاص معاً.

هل في إمكان الدولة تجفيف منابع الفساد؟
هل تتمكن كل تلك الجهود من وقف الفساد في البلاد؟ يرى الدكتور إحسان الشمري، من جامعة بغداد، أن "المشكلة أعمق من الظاهر، فلم تؤمن القوى السياسية بمبدأ فصل السلطات الذي يعد أساس النظام الديمقراطي، وقد تسبب صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية والدولة ونظامها الذي رسخته القوى السياسية بعدم قدرة الأحزاب على إدارة البلاد".

ولم يعد الفساد في العراق عرضياً نتيجة أخطاء اقتصادية وسياسية، بل أضحى عملاً مدبراً لتعطيل الدولة ومنعها من أداء دورها في المنطقة، إذ باتت كما يصفها كاتب عراقي، "عايشة على المغذي بين الموت والحياة".


PM:05:36:20/09/2021

ئه‌م بابه‌ته 2580 جار خوێنراوه‌ته‌وه‌‌